- مؤسس “آبل” لم يدرس في الجامعة سوى 6 أشهر.. ثم ترك الدراسة قائلا: “لم أجد لها قيمة”
- سأله راهب بوذي في الهند أن يثبت صحّة بحثه عن الحقيقة عمليا.. فأحضر له شريحة إليكترونية!
- آخر كلماته على فراش الموت: كُن شجاعاً لتتبع ما يمليه عليك قلبك وحدسك.. فهما يعرفان حقاً ما تريد
“إن البشر الذين لديهم ما يكفي من الجنون للاعتقاد بأنهم يستطيعون تغيير العالم، هم من يغيّرونه فعلا”.
هذا الإعلان الغريب الذي كان شعار شركة “آبل” الأمريكية للتقنية، والذي وضع كلماته مؤسس الشركة الراحل ستيف جوبز عام 1997، تحت عنوان “فكر باختلاف”، هو بالضبط الشعار الذي وضعه “جوبز” نصب عينيه طوال حياته لكي يتحول في نهاية المطاف من مجرد “هيبيز” سابق متهم بأنه كان “مجنونا”، إلى أشهر قائد في عالم التقنية!
“جوبز”، الأمريكي الذي حمل في عروقه دماء عربية، كان واحدا من أبرز شخصيات القرن العشرين، وأكثرهم إثارة للجدل بسبب إنجازاته وغرابة أطواره، فقد كان يصرخ في مرؤوسيه، ويبكي مثل الطفل الصغير عندما لا يحصل على ما يريد. وحينما كان يتم إيقافه بواسطة البوليس بسبب القيادة بسرعة 100 ميل في الساعة، يضغط بوق السيارة بعنف تعبيرا عن عجلته وغضبه من تأخر الضابط في كتابة المخالفة، ثم يكمل رحلته بنفس السرعة كما كان يفعل، ويجلس في المطعم فيعيد الطعام ثلاث مرات بدعوى أنه مطبوخ بطريقة سيئة!
يقول عنه أحد أصدقائه: “كان ستيف يمتلك قدرة غريبة على معرفة نقطة ضعفك بالتحديد، معرفة ما الذي يجعلك تشعر بضآلتك، والقدرة على جعلك تنكمش”.
الأب البيولوجي
ووفق موقع الموسوعة الحرة “ويكيبيديا”، ولد ستيف جوبز في سان فرانسيسكو في 24 فبراير 1955 لأبوين غير متزوجين، وهما السوري عبد الفتاح جندلي والأمريكية جوان شيبل اللذان كانا وقتها طالبين في الجامعة، وقد عرضه والداه للتبني، بعدما رفضت أسرة شيبل زواجها من رجل عربي غير مسيحي، فتبناه زوجان من ولاية كاليفورنيا هما بول وكلارا جوبز، وهما من عائلة أرمينية- بولندية الأصل على رأسها الزوجان باول وكلارا جوبز، وهو ما ترك أثراً في حياة “ستيف” الذي لا يذكر اسم والده الحقيقي “عبد الفتاح” إلا مع استخدام صفة “الأب البيولوجي”.
شب “جوبز” عن الطوق طفلا عاديا في منزل العائلة التي تبنته، على بعد عدة كيلومترات من منطقة “وادي السيليكون”، وهي مركز صناعات التكنولوجيا الأمريكية، وعانى “ستيف” في بداية حياته الدراسية من مرض «الديسليكسيا» وهو مرض متعلق بصعوبة قراءة الكلام المكتوب، وكان هذا المرض النادر هو أول التحديات التي واجهته في مسيرته العملية، لكنه استطاع التغلب عليه بمساعدة العائلة، وسرعان ما بدأت شخصيته تتجلى كشخص غير عادي لن يمر على هذا العالم مرور الكرام.
كان “ستيف” طالبا متوسط الذكاء، يحصل على درجات متوسطة في معظم المواد، لكن كانت هناك مادة واحدة تثير حماسته وهي الإلكترونيات، فقد كان هاوياً ومتحمّساً وعاشقاً لعالم التكنولوجيا، ثم تخرج من المدرسة الثانوية والتحق بالجامعة، حيث تأثر كثيرا بأفكار “الهيبيز” وهم الشبان من ذوي الشعر الطويل، والسراويل المفتوحة، الذين يفضلون الموسيقى الصاخبة، وبعد بضعة أشهر توقف عن الدراسة الجامعية بسبب ضائقة مالية ألمت بأسرة باول وكلارا جوبز، فترك الجامعة إلى غير رجعة.
وعلق “جوبز” على تركه للجامعة قائلاً: “بعد 6 أشهر لم أجد لها قيمة، لم يكن لدى تصور عن الهدف الذى أريد تحقيقه فى حياتى، ولا عن فائدة الجامعة فى تحقيق هذا الهدف، كما أننى أنفق كل ما ادخره والداي طوال حياتهما، ولذلك قررت التوقف عن الدراسة الجامعية، لقد كان الأمر مخيفًا وقتها، لكننى أرى الآن أنه أفضل القرارات التى اتخذتها فى حياتى”.
وبعد أن ترك دراسته، سعى “جوبز” إلى تنمية مهاراته في مجال التكنولوجيا والإلكترونيات، فقدم ورقة بأفكاره في مجال الإلكترونيات إلى شركة “أتاري”، وهي أول شركة في صناعة ألعاب الفيديو، وتمكن من الحصول على وظيفة مصمّم ألعاب فيها، وتم تعيينه للعمل في فترة الليل فقط في شركة “أتاري” نتيجة الشكوى من نظافته. فقد كان نادرا ما يستحم، وكان يمشى عاري القدمين في مكاتب الشركة، وكان يهدف من هذا إلى توفير المال اللازم للسفر إلى الهند.
وهناك، في الهند، أراد أن يصبح راهباً، فمارس بعض التدريبات الروحية التي ظل يمارسها ويعمل بها طول حياته، وزار راهباً بوذياً فسأله هذا أن يثبت صحّة بحثه عن الحقيقة عمليا، لكنّ جوبز عاد إليه مع شريحة إليكترونية كان قد صنعها!
وعاد “جوبز” من “رحلته الهندية” كما كان يدعوها إلى الولايات المتحدة، ورغم ضعف اهتمامه بالتعليم المدرسي تعلق بعالم المعلوماتية، والتحق بدورة تدريبية لدى مركز شركة “إتش بي” الذي كان مركزها قريباً من منزل أسرته بالتبني، وهناك تعرف على صديق عمره وزميل كفاحه ستيف وزنياك، ونشأت بينهما علاقة قوية فحققا معاً خطوات مهمة في عالم التكنولوجيا فيما بعد.
و”زنياك” مهندس أمريكي من أصول بولندية مولود في 11 أغسطس 1950 بمدينة سان خوسيه في كاليفورنيا، أي أنه يكبر صديقه “جوبز “بخمس سنوات، وكان “زنياك” هو أحد عباقرة جيله في ولاية كاليفورنيا. وفي عام 1975 توصل المهندس الشاب بإمكانياته الخاصة إلى جهازه الجديد “أبل 1” أول جهاز كمبيوتر شخصي في التاريخ، صحيح أن الجهاز كان محدودا لكنه في ذلك الوقت كان جهازا ثوريا، فأجهزة الكمبيوتر كانت تشبه خزانات كبيرة بدون شاشة ولا لوحة مفاتيح. ولم يكن “زنياك” فخورا باختراعه، ولم يفكر يوما في تسويقه تجاريا، غير أن “جوبز” كان مصرا على ذلك، وحينما سأل “وزنياك” صديقه: ماذا لو خسرنا مالنا؟ أجابه: حينها نكون قد أسسنا شركتنا الخاصة على الأقل!
وهكذا، كانت هذه الشركة الصغيرة واحدة من محطات عديدة في حياة “جوبز” الذي قرر حينها مباشرة تسمية الشركة “أبل”، فمن أين جاء ذلك الاسم؟ من تلك المزرعة التي كان يجتمع فيها مع أصدقائه “الهيبيز في فترة شبابه، كانت مزرعة للتفاح مع العضة على اليمين لتفادي الشبه مع حبة الطماطم، وتلك الألوان التي كانت ترمز لأفكار “الهيبيز” سعيا إلى “تغيير العالم”.
وصارت حكاية “آبل” قصة نجاح، فقد تحولت الشركة الصغيرة التي بدأت في مرآب سيارات إلى مقر ضخم في “وادي السيليكون” واستطاع جوبز غزو الولايات المتحدة بـ 300 ألف جهاز، وأصبحت مدارس أمريكا كلها مزودة بأجهزة “أبل”.
وكان الهدف الرئيسى من تأسيس “آبل” هو إضفاء طابع الديمقراطية على عملية التكنولوجيا، وإتاحة التقدم العلمى للجميع وذلك بابتكار أجهزة أصغر، أرخص، أذكى، وبينما ابتكر “وزيناك” أجهزة كمبيوتر شخصية سهلة الاستخدام، تولى “جوبز” عملية التسويق، وكان سعر أول جهاز كمبيوتر 666 دولاراً، ووصلت أرباح الشركة من مبيعات أول جهاز إلى 774 ألف دولار.
ومع نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، واصلت “أبل” نجاحاتها وباعت 5 مليون سهم في البورصة خلال بضع دقائق فقط لتقفز قيمة الشركة بنسبة 23 % في يومها الأول. وبهذا أصبح “الثنائي ستيف” كما كان يسميان مليونيرين بعد 14 عاما من العمل معا، بميزانية وصلت إلى 300 مليون دولار لكليهما.
“شكسبير التكنولوجيا”
يورد كتاب «أن تكون ستيف جوبز.. تطور شخص متهور ومجنون إلى قائد صاحب رؤية» للكاتبين ينبرن تشلندير وريك تيتزيلى، والصادر فى الولايات المتحدة نهاية مارس الماضى، محاولة لمعرفة سر نجاح هذا الرجل وكيف قرأ المستقبل وأسرع بعملية التغيير التكنولوجى.
ويؤكد مؤلفا الكتاب أن مؤسس “آبل” كان يتمتع بقدرة خارقة على توصيل وجهة نظره والتعبير بطريقة مقنعة تسحر كل من يستمع إليه، وكان الجميع يقتنع بما يقول بفضل طريقة تعبيره عن وجهة نظره والحماس الذى يملأ صوته وهو يشرح ما يريد.
ويكشف الكتاب أسرار نجاح “جوبز” فى إدارة “آبل” والتى تتلخص فى الاستعانة بالأشخاص المناسبين في العمل، والثقة فى قدراتهم وعدم التدخل فى عملهم، فقد كان حريصا على الاستعانة بمجموعة من المديرين التنفيذيين الخبراء فى مجال عملهم وترك لهم حرية التصرف دون تدخل منه إلا عند الضرورة.
وكان “جوبز”، كما يؤكد معاصروه، رجلًا مُتعِبًا، فهناك أجزاء من حياته وشخصيته فوضوية للغاية، فهو يصل إلى جناحه في الفندق لأجل مقابلات صحفية ثم يقرر، في الساعة العاشرة مساءً، أنه يجب تغيير مكان البيانو، وأن فاكهة الفراولة غير مناسبة، وأن الزهور المنتقاة كلها خاطئة، وعندما تعود مساعدته للعلاقات العامة في منتصف الليل بالزهور المطلوبة، يخبرها أن بذلتها “مقرفة”
ولكنه على الرغم من ذلك كان صاحب رؤيا ومديراً ذا شخصية جذابة تتمتع بمهارات تواصل ممتازة، لكنه كان مستبداً لا يرحم، ومصاباً بجنون العظمة أيضاً، إذ كان يرى في نفسه واحداً من عظماء قادة العالم الثقافي أو السياسي في عصرنا هذا. ومن خلال حديثه كان جوبز يرى نفسه واحداً من الأشخاص المميّزين القلائل في العالم، أمثال شكسبير ونيوتن، أما البقية فبلا قيمة ولا يعنون شيئاً.
وذات مرة، سئل “جوبز” عن سر الأفكار الخيالية التي تتمتع بها “آبل” فقال: “إن من يعمل في الشركة ليسوا فقط مبرمجين بل رسامين وشعراء ومهندسين ينظرون للمنتج من زوايا مختلفة لينتجوا في النهاية ما ترونه أمام أعينكم “.
وفي كتابه “ستيف جوبز” يقول الكاتب الأمريكي والتر إيزاكسون، كاتب سيرة حياته، إن “التدريبات الروحية التي كان يمارسها الرجل لم تترك في دخيلة نفسه صفاء داخليا أو هدوء روحانيا، ففي أغلب الأحيان كان مبدعا لكنه مضطرب ونافد الصبر، وهي صفات لم يبذل جهدا لإخفائها. إن معظم الناس يمتلكون منظما بين عقلهم ولسانهم يلطف من مشاعرهم الوحشية واندفاعاتهم الحادة، وجوبز ليس من هؤلاء (…) وهذا الجانب البغيض من شخصيته لم يكن ضروريا، فقد أعاقه أكثر مما ساعده”.
ويقول الكاتب الدكتور عبد المنعم سعيد إن “ستيف جوبز لم يخترع شيئاً ما، لم يصمم جهازاً محدداً، لم يضف طاقة إلى منتج، لم يقم بتوزيع هذا المنتج ويجعله سابقة عالمية، بل هو صاحب رؤية، على الأغلب لا يعرفها أحد إلا هو، وهى التى تضع الجميع فى مكانهم الصحيح. عبقريته فى اختيار الأدوار، والشخصيات التى تقف وراءها”.
وفي الخامس من أكتوبر 2011، توفي “جوبز” في منزله، بعد صراع طويل مع المرض، متأثرا بإصابته بسرطان البنكرياس، عن 56 عاما بعد حياة حافلة لرجل غريب الأطوار جعل العالم أفضل.
وكانت آخر كلماته وهو على فراش الموت: “الآن فقط فهمت بعد أن أمضيت حياةً محاولاً جمع ما يكفي من المال لبقية حياتي، أن لدينا ما يكفي من الوقت لتحقيق أهداف لا تتعلق بالثروة فقط”.
وأخيرا، قال “جوبز”: “كن شجاعاً لتتبع ما يمليه عليك قلبك وحدسك. فهما وبطريقة استثنائية، يعرفان حقاً ما تريد”.