أطلقت وكالة ناسا منذ أيام قليلة ساعةً ذريةً جديدةً متطورةً على متن صاروخ فالكون، أُطلق عليها اسم Deep Space Atomic Clock. طور مختبر الدفع النفاث في ناسا هذه الساعة، وتعتبر تطويرًا لكل من الساعات العادية في الفضاء (كتلك المستخدمة في نظام GPS) والساعات الذرية الأرضية. بحسب ناسا، ستساعد هذه الساعة على جعل الرحلات الفضائية العميقة المستقبلية (كالرحلات المستقبلية إلى المريخ) أكثر استقلالًا وكفاءةً؛ لأنها ستسمح بحساب موقع المركبات الفضائية بدقة هائلة، دون الحاجة للاتصال بالأرض.
كيف ذلك؟
يستخدم علماء الفلك الساعات لحساب موقع السفن الفضائية في الفضاء، إذ يرسلون إشارةً للسفينة، ثم تقوم السفينة برصدها وإعادة إرسالها، وباحتساب الزمن اللازم لإجراء العملية، ومعرفة أن الإشارة تسافر بسرعة الضوء، يمكننا تحديد موقع السفينة بعملية حسابية بسيطة، وبإرسال عدة إشارات، يمكن احتساب مسار السفينة.
ولكي نحدد الموقع بدقة كبيرة، يجب أن يتوفر لدينا ساعات دقيقة جدًا، يمكنها قياس حتى أجزاء من المليار من الثانية، كما يجب أن تكون هذه الساعات ذات ثباتية (Stability) عالية، وتشير “الثباتية” إلى مدى دقة الساعة في احتساب وحدة الزمن.
قد تظن أن الساعات التي نستخدمها في حياتنا اليومية تقيس الثواني بدقة متناهية، ولكن في الحقيقة فإنها تقيس فترات زمنية مختلفة على أنها ثانية، فكلما تقدمت الساعة، يزداد انحرافها لأن تحسب فترات زمنية أطول على أنها ثانية. ولاحتساب مواقع السفن الفضائية بدقة، يجب على علماء الفلك استخدام ساعات ذات ثباتية عالية، ودقة حتى أجزاء من المليار من الثانية، وأن تحافظ على ذلك لأيام وحتى أسابيع وتلك هي الساعات الذرية.
تعتمد الساعات المستخدمة حاليًا من تلك التي نلبسها، وحتى تلك المستخدمة في نظام الـ GPS غالبًا على هزازة بلورة الكوارتز، على حقيقة أن بلورات الكوارتز تهتز بتواتر ثابت عند تطبيق توتر كهربائي عليها.
ولكن بالنسبة للدقة الهائلة المطلوبة في مجال ملاحة السفن الفضائية لا تعتبر ساعات بلورات الكوارتز دقيقةً على الإطلاق؛ فهي تؤخر حوالي ميلي ثانية كاملة كل ست أسابيع، وهذا يعادل السفر مسافة 300 كيلومتر، لأن الإشارة تنتقل بسرعة الضوء. خطأ كهذا قد يؤثر بشكل كبير على تحديد مواقع السفن المسافرة بسرعة هائلة في الفضاء كما تقول ناسا.
الساعات الذرية هي ساعات كوارتز، مدموجة مع أنواع معينة من الذرات، ما يجعلها أكثر ثباتًا بشكل هائل. ستستخدم ساعة ناسا الجديدة ذرات الزئبق؛ كي تسمح لها بأن لا تؤخر أكثر من نانو ثانية واحدة بعد أربعة أيام، وأقل من ميكرو ثانية واحدة بعد 10 سنوات، وستحتاج الساعة لأكثر من مليون سنة قبل أن تؤخر ثانيةً كاملة، بحسب ناسا.
لتحقيق هذه الدقة العالية، تعتمد الساعات الذرية على بنية الذرة (نواة من البروتونات والنيوترونات محاطة بإلكترونات)، فلذرات كل عنصر بنية مميزة (عدد بروتونات وإلكترونات مميز)، ولكن تنتظم الإلكترونات في كل العناصر في مستويات طاقة محددة، وباستخدام كمية طاقة محددة يمكننا نقل أحد هذه الإلكترونات من مستوىً إلى أعلى، كمية الطاقة هذه مميزة لكل عنصر، وإن ثبات هذه القيمة هو ما يجعل الساعات الذرية دقيقةً لدرجة هائلة.
من حيث المبدأ، تقوم الساعات الذرية بتصحيح نفسها؛ إذ يُحوَّل التواتر الصادر عن هزازات بلورات الكوارتز إلى طاقة تُطبًّق على مجموعة من ذرات عنصر معين، فإذا كانت الطاقة مناسبةً (وبالتالي التواتر مناسب) ستنتقل الإلكترونات في مجموعة كبيرة من الذرات إلى المستوى التالي، أما إن لم تكن مناسبةً، فسينتقل عدد أقل من الإلكترونات، هذا يسمح للساعة الذرية بمعرفة أن هزاز بلورة الكوارتز يُصدر تواترًا خاطئًا، ويعرض القيمة اللازمة لتصحيحه. لذا، تُحسب قيم التصحيح اللازم في ساعة ناسا الجديدة، وتُطبق كل عدة ثوان.
بالإضافة لذلك، فإن ساعة ناسا تستخدم أيونات الزئبق بدلًا من ذرات الزئبق، وبطبيعة أن الأيونات مشحونة، يمكن احتجازها بحاجز كهرومغناطيسي، ما يمنعها من التفاعل مع جدران حجرة العزل، والتي هي مشكلة شائعة في الساعات الذرية التقليدية، إذ أن التفاعل مع جدران الحجرة يعرّض الذرات لمؤثرات خارجية، كالحرارة، ما قد يسبب تغيرات في التواتر المطلوب لنقل الإلكترونات لمستوى أعلى. ساعة ناسا الجديدة ستكون محمية من هذه التغيرات، وبالتالي أكثر “ثباتيةً” بحوالي 50 مرة من الساعات المستخدمة في الـ GPS